ما سبق هو إشارة إلى جملة من الوسائل التي يمكن أن يستفيد منها المربي في غرس وبناء القيم، وهذه الوسائل بمنـزلة أدوات البناء التي تحتاج -لكي تشيِّد بها بناءً- إلى طريقةٍ في استخدامها، لذا سنذكر مجموعة من الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المربي في أثناء التربية ليتحقق له ما يريد من غرس القيم وتوجيه القناعات.
ضوابط عامة في كيفية غرس القيم:
1- غرس القيمة يحتاج إلى وقت طويل:
غرس القيمة أشبه ببناء المنـزل الذي لا يقوم بين ليلةٍ وضحاها، بل لا بد من بناءِ أساسٍ له وتشييده لبنةً لبنة حتى يستوي على سوقه، ولا بد قبل ذلك من التخطيط لهذا البناء، ولا بد من بذل الجهود المتضافرة لتحقيق هذا الهدف.
وفي مثلنا هذا: تُمثِّل المنازلُ في المدينة مجموعةَ القيم التي تحدد شخصية الإنسان وتوجهها، وثمة مدن تُبنى بطريقة عشوائية حسب الظروف البيئية والمعيشية دون تخطيط أو ترتيب أو مرجعيات علمية، فتظهر بيوتها رديئة، وأساساتها ضعيفة، وأزقتها ضيقة، وترى فيها التناقضات: الحسن والقبيح، والضيق والفسيح.. فإذا أراد عمدة هذه المدينة إعادة تنظيمها وترتيبها أشكل عليه ذلك! فبعض المنازل يحتاج إلى هدم كامل، وبعضها يحتاج إلى ترميم، ومهما بذل من جهودٍ في تجميل مدينته تراءى له أن بناء مدينة جديدة أهون عليه من الترميم والتعديل!.. فهذا هو شأن التربية وشأن بناء القيم! فكلما تداركنا الإنسان في طفولته وغرسنا فيه القيم الفاضلة، ساعدنا ذلك في تكوين شخصيةٍ متزنة فاضلة.
ولذا نجد عند الصحابة الذين رباهم المربي الأول صلى الله عليه وسلم أخطاء سببُها عدم ترسخ بعض القيم الترسخ المطلوب، مما يتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدها مرة أخرى، ومما يروى في ذلك ما أخرجه البخاري [في صحيحه ح30] عن المعرور قال: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ). وقد وعى أبو ذر الدرس جيدًا، فأثر فيه بقيةحياته.
ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ)، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ) [متفق عليه وهذا لفظ البخاري]، وهذا الحوار كان بعد فتح مكة حتمًا، إذ دخل عامة قريش في الإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم.
ومنه ما رواه جابر رضي الله عنه قال: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟)، ثُمَّ قَالَ: (مَا شَأْنُهُمْ؟) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ). [صحيح البخاري3257]. والأمثلة على ذلك كثيرة، والمقصود أن على المربي أن يعلم أن بناء القيم ليس بالأمر الهين، وأن الكمال عزيز، فيتحمل ما يراه من أخطاء المتربي، ويصبر على التربية فإنها تحتاج إلى نَفَس طويل.
2- غرس القيم في مرحلة الطفولة أسهل من غرسها بعد ذلك:
الكثير من الآباء لا يتفطن للتربية إلا بعد أن يبدأ في معاناة مشاكل ابنه أو ابنته في مرحلة المراهقة، وكثير من شكاوى الآباء التربوية هي شكاوى (لمظاهرٍ) سببُها غيابُ قيمٍ.. المشكلة أن الآباء لا يتفطنون لذلك، ويظلون يبحثون في حلٍّ لظاهر المشكلة دون تفكير في أسبابها الحقيقية، كمن يعالج صداع الرأس بالمهدئات دون أن يفكر في اجتثاث سبب الصداع. يشكو الأب مثلاً من سهر ابنه خارج المنـزل، والسبب غيابُ قيمة حفظ الوقت، وقيمة الجدية، وبر الوالدين.. ويشكو من هربه عن المدرسة، والسبب غياب قيمة تقدير العلم والحرص عليه، والصدق..الخ .
وخلاصة الحديث أن غرس القيم في وقت مبكر أولى وأسهل، ويرجع ذلك لمجموعة من الأسباب:
أولاً: درجة ذكاء الطفل العالية في هذه المرحلة
وقد اتضح من الدراسات أن المسافات بين خلايا مخ الإنسان تتسع حتى يبلغ سنتين، ثم تبدأ بالاضمحلال بعد ذلك! ولك أن تتأمل في سرعة اكتساب الطفل للغة أو لأكثر من لغة (دون مُعلِّم!)، وهو يكتسب القيم في طفولته بنفس الطريقة التي يكتسب بها اللغة، والمعروف عند المتخصصين في التنشئة الاجتماعية أن الطفل في هذه المرحلة يلاحظ استجابات أهله وردود أفعالهم على السلوكيات التي يمارسها، ويتعامل معهم على هذا الأساس! ويبدأ الطفل غالبًا بالمحاكاة قبل أن يتم السنة الأولى من عمره.
ثانياً: عدم وجود سابقات فكرية
بمعنى أن قاعدة البيانات عند الطفل فارغة! بخلاف الكبير الذي تحتاجُ إذا أردتَ غرسَ قيمةٍ فيه أنْ تقتلعَ نقيضها.
ثالثاً: قلة مصادر التلقي
فالصغير لديه قدوة واحدة أو قدوتان (الوالدان) ثم تتسع قائمة القدوات بعد ذلك، ويقل تأثير الوالدين على الابن.
وبناء على ما سبق، نفهم السر فيما ذكره العلماء مِن أن السنوات الست الأولى من عمر الإنسان هي المرحلة الذهبية لغرس القيم.
3- غرس القيم عملية أصعب من أن نخطط لها!
يمكننا أن نخطط ونعد الكثير من البرامج لغرس مجموعة من القيم، ولكننا إن أردنا أن نستوعب جميع القيم التي ينبغي غرسها في الأبناء فعلينا أن نجعل حياتنا كلها برنامجًا متكاملا لبناء القيم!.. وعليه فإننا إن أردنا أن نغرس القيم في أبنائنا، فلا بد أن تكون حياتنا كلها مدرسة للقيم؛ مما يؤكد أهمية أثر البيئة والمربي (القدوة) في غرس القيم، وهو ما سنوضحه في المقالات التالية.
وللحديث صلة..
=====
[*] نُشِر أصل المقال في موقع الألوكة.
ليست هناك تعليقات:
أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال