بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:إننا نبعث إليكم هذين الكتابين (لاتهتم بصغائر الأمور فكل الأمور صغائر) و (لاتهتم بصغائر الأمور مع أسرتك) للمؤلف الأمريكي د/ريتشارد كارلسون.. إننا بعد الاطلاع عليهما وجدنا أنفسنا في حيرة من أمرهما، فهما في ظاهرهما وكما يبدوان يدعوان إلى الأخلاق الكريمة التي دعا إليها الإسلام وأمر بها .. ولكن هل ينطبق عليهما قول: “يدس السم بالعسل” هذا ما أردنا السؤال عنه، لأننا كنا منبهرين بهما وبما يدعوان إليه وخاصة أن الكاتب نصراني.فإذا قلنا أنه لم يطلع على السيرة النبوية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذاً من المستحيل أن يتوصل إنسان حتى لو كان عالماً لما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ..والذي يحيرنا أكثر إذا وضعنا احتمالا بأنه اطلع على السيرة والأحاديث والقرآن .. وأخذ منهما لكي يوهم المسلمين بأن ما عندهم ليس بالشيء المعجز وأنه يتوصل إليه أو يفكر به أي إنسان.. ولأننا لسنا على درجة من العلم ونريد إبراء ذمتنا أمام الله تقدمنا بالسؤال عنهما وما هدف الكاتب من هذه الكتب .. فلا نريد ظلما له ولا نريد أن ننخدع بأقواله التي والله أعلم أنه .. اقتبس فعلا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ..فنرجو من فضيلتكم الاطلاع وإفادتنا وإفادة المسلمين.. لأننا نتوقع أن هذا أسلوب جديد في الدعوة إلى النصرانية والله أعلم .. وجزاكم الله عنا كل خير.
الإجابة:
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فأشكر الأخوات الفاضلات على ما لمسته منهن من حرص واهتمام بأمور الدين .. وأرجو أن يوفقني الله للإجابة على تساؤلاتهن..
بداية أحب أن أشير إلى عدد من النقاط:
- ما يطرح في الوقت الحاضر من أطروحات غربية تتعلق في المجال الإنساني وتعنى غالبا في الجانب العملي.. هي نتاج آراء وتجارب قابلة للنقاش والأخذ والرد.. وأقربُها لنا - نحن المسلمون - ما كان يعنى بالحلول العملية لمشكلات العصر.. وأبعدُها ما يهتم بالتنظير ووضع الأطر الفلسفية للحياة الإنسانية لأنها حينئذ تكون قريبة جداً من فلسفة الغرب السائدة..
- هذان الكتابان لم يؤلفا ليقرأهما المسلمون، وإنما ألِّفا للقرَّاء الغربيين، ثم تُرجما بعد ذلك للعربية.. وبالتالي فأنا أستبعد ما ذكرته الأخوات من وجود رسالة خفية، ضد الإسلام أو أنه يدس السم في العسل.. أو أنه أسلوب جديد لدعوة المسلمين إلى النصرانية..
- لم أرجع إلى الكتاب الأصلي .. لكني أعتقد أن المترجم قد تصرف في بعض عناوين الفصول، وربما في بعض الكلمات المترجمة.. ومن أمثلة ذلك: (حاجة من عاش لا تنقضي) فهذا شطر من بيت عربي مشهور:
نروح ونغدو لحاجاتنا … وحاجةُ من عاشَ لا تنقضي
- وكذلك عنوان (أخف صدقتك حتى لاتدري شمالك ما أنفقت يمينك) فهذا جزء من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله المتفق عليه. أما الكفار فهم لا يفرقون بين اليمين والشمال بشيء..وكذلك عنوان (ارض بما قُدِّر لك) فالفلسفة الغربية في الجملة قائمة على إنكار إرادة الله الكونية.. وهم يرون أن الإنسان يسيِّر نفسه، ولكنه لا يعلم ما يأتيه في مستقبله، وهل هو خير له أم شر.وكذلك عنوان (البركة في البكور) فمع أن المؤلف حث على الاستيقاظ مبكرا.. إلا أني أشك في وجود مصطلح “البَرَكة” عندهم .. وفي الحديث (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وهو حديث حسن بشواهده.. وكذلك عنوان (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) فهذا أثر مشهور روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص .. أما الغربيون فلا يؤمنون بالآخرة .. وهذا واضح في مؤلف الكتاب، فهو لم يذكر الآخرة في كتابيه إطلاقا..
- تعاليم شريعة الإسلام ليست بعيدة عن طبيعة البشر بل هي موافقة للفطر السليمة، لذا لا عجب أن يهتدي بعض الناس إلى الحق الذي فيه دون أن ينهلوا مباشرة من معين الإسلام، وأن يقتنعوا به.. خاصة في هذا الزمان الذي تطورت فيه وسائل الاتصالات وانتشر العلم في كل مكان.. ورجلٌ في مكانة (ريتشارد كارلسون) يتوقع منه أن يكون واسع الاطلاع.. وربما اطلع على بعض التوجيهات الإسلامية أو التقى بعض المسلمين فاستفاد من الإسلام بشكل مباشر أوغير مباشر. وعلى أي حال ينبغي أن نعلم أن كل ما جاء به الإسلام حق .. أما ما جاءت به عقول البشر ففيه الحق وفيه الباطل.. خاصة إذا كنا نتحدث عن أهل الكتاب.. فلربما كان في الكتب التي بين أيديهم بعضُ حقٍّ لم تطلْهُ يدُ التحريفِ البشرية.
- ثقافتنا الإسلامية مليئة بالكنوز التي تغنينا عن حكايات وتجارب هذا الرجل .. وفي تاريخ أمتنا من القصص والعبر والدروس ما يكفي إصلاح الأمة .. لكن الناس مع الهزيمة النفسية التي يعيشونها انصرفوا عن تدارس السيرة النبوية وتاريخ ابن كثير و(سير أعلام النبلاء) و (صفة الصفوة) و(الإصابة) وكتب التفسير والحديث والعقيدة واتجهوا لقراءة كتب تُعنى بعرضِ تجاربٍ شخصية لكفارٍ تصيبُ أو تخطئ.. والواجب بالمثقفين أن يعيدوا صياغة كتب التراث لتظهر بأسلوب حديث دون أن يمسوا مضمونها أو يغيروا حقائقها وثوابتها.
- أغلبُ الكتابات الغربية تدور على مبدأ تحقيق اللذة واجتناب الألم، ومبدأ إشباع الغرائز والحاجات [ينظر: الصبيح: تمهيد في التأصيل ص120] وهذان الكتابان لايخرجان من هذا النسق، فكثيراً ما يرجع المؤلف الهدف من فعل الخير إلى ما يستفيده الإنسان داخلياً من تحقيق المشاعر الدافئة والرضى الداخلي، يقولُ - مثلاً - في ص26 من كتابه الأول : (إن على الشخص فعلاً أن يعطي من أجل العطاء فقط(!)، لا أن يحصل على شيء في مقابله.. إن جزاءك هو المشاعر الدافئة التي تحصل عليها عند العطاء (!!). في المرة القادمة عندما تقدم عملاً طيباً جداً لشخص آخر اجعله في نفسك وانعم بالسعادة الغامرة الناتجة عنه).. لاشك أن السعادةَ الداخليةَ على فعل الخير إحساسٌ واقعٌ لكنها ليست الهدفَ النهائي من فعل الخير ، بل الهدف هو ابتغاءُ مرضاةِ الله والثوابُ منه. ويقول في ص22: (الغرض من الحياة..التمتع بكل خطوة على طريق الحياة) وأعتقد أن هذا النص لايحتاج إلى تعليق لأن أي مسلم يعلم أن الغرض من الحياة هو عبادة الله - بالمفهوم الشامل للعبادة. بل يوصينا في ص293 من الكتاب الثاني أن نُذَكِّر الآخرين دائما بأن يُحِبُّوا الحياة!!.. وأنا أُذكِّر نفسي وأذكِّركنَّ بأن نحب الآخرةَ فهي الحيوان.. ((وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) [سورة العنكبوت64].
- تكلم المؤلف عن التصالح مع العيوب .. ولا تضاد بين طلب الكمال والرضا بالواقع الذي سيتغير إلى الأحسن .. إن التصالح مع العيوب لا يعني التوقف عن طلب الزيادة وإنما يعني النظر بإيجابية إلى الحال الواقع. ويشهد لهذا حديث شداد بن أوس المرفوع: (الكيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لِمَا بعد الموت، والعاجزُ مَن أتْبَعَ نفسَه هواها وتمنى على الله) أخرجه الترمذي وحسّنه.
- وردت أكثر من مرة عبارة (ولقد كان من حسن طالعي) وهذا تعبير غير مناسب، لأن التشاؤم من أعمال الجاهلية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن ويكره الطِّيرة). أخرجه ابن ماجه وإسناده صحيح.
- عرَّف المؤلف الشفقة تعريفاً غريباً بأنها تعني استعدادك أن تضع نفسك مكان ذلك الشخص.. وهذه ليست الشفقة بل الحامل عليها ..
- ذكر لنا المؤلف حديث الأم تريزا: (لانستطيع أن نفعل أشياء عظيمة في هذه الدنيا، يمكننا فقط أن نفعل أشياء صغيرة ولكن بحب شديد) فرحم الله أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم إذ تركت حديثه ولهثت وراء حديث الأم تريزا!!.. أخواتي الفاضلات: يمكننا فعل أشياء عظيمة.. والإخلاص واتباع المنهج الإسلامي الصحيح ركنان مهمان لتحقيق الإنجازات العظيمة..وعموماً كان مقصود المؤلف هو التأكيد على تقديم العواطف الرقيقة مع أعمال الخير وإن قَلَّتْ.. وقد تواترت النصوص في التأكيد على عمل الخير مهما قل، كما في حديث أبي هريرة المرفوع : (سبق درهم مائة ألف درهم) [أخرجه النسائي وحسنه الألباني].. أمَّا تقديم الحب قبل الصدقة فيغنينا عن حديث أمِّه تريزا قولُ الله تعالى : ((قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)) [سورةالبقرة263] وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ))[سورة البقرة264]
- ذكر المؤلف في ص155 : أن كل شيء صنعته يدُ الله فهو مقدَّس!.. ولا شك في خطأ هذه العبارة.. فكل ما سوى الله هو من خلقه.. والقداسةُ لاتكونُ إلا لما كتب الله له ذلك..
- ارقد على فراش الموت.. وصية جميلة تساعد الإنسان على ترتيب الأولويات.
- والعديد من الوصايا المنثورة في الكتاب: أخبره أنك تحبه.. فضل الصبر .. الحلم.. التواضع .. النهي عن الغيبة وغيرها كثير.. أكد عليها ديننا الحنيف، وطبقها سلفنا الصالح.. لكننا غفلنا عنها..
- قراءة ما يخالفك الرأي .. هذه الوصية محل نظر .. فلا يؤخذ الأمر على إطلاقه.. بل الصواب فيها أن لايُشَتِّت الإنسان نفسه فيختلط عنده الحق بالباطل .. بل نقول: انهل من معين الإسلام، وتحصن بالعلم الحق .. ثم لامانع أن تطلع على الثقافات الأخرى اطلاعاً ناقداً وقراءةً واعية..
في الكتابين العديد من الوصايا الجميلة التي يستفيد منها من يطَّلع عليها.. وإن كان الواجب علينا الاهتمام بكتاب ربنا الذي فيه هدايتنا . كما قال سبحانه:((إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )) [سورة الإسراء9].
شرح جميل جزاك الله خيرا
ردحذف