أمالي الزنيدي.. في الثقافة الإسلامية((5))*
ثمرة العملية الثقافية التي قام بها العصرانيون:
لقد تحققت لهؤلاء المثقفين الفرصة وأصبحوا في موقع القيادة في كثير من المجتمعات العربية سواء السياسية أو الفكرية، وكانت النتيجة بعد عقود من هذه الهيمنة التي تحققت لهم: سقوط حضاري، وتبعة للآخر، واندحار عسكري، وحالة تسول.. هذه النتيجة تؤكد الفشل الذريع والإخفاق المروع لدور هؤلاء المثقفين.
هذا نوع من الاتهام الذي نصمهم به - وهو دعوى لابد أن تُعضَد بما يدعمها - ويكفينا برهاناً على هذه الدعاوى :
1) الواقع: والواقع شاهد.
2) اعترافات هؤلاء على أنفسهم.
اعترافات العصرانيين:
فيما يلي سنسوق مجموعة من اعترافات العصرانيين كبرهان على فشلهم الذريع:
انفصال هؤلاء المثقفين عن المجتمع:
= يقول محمد عبد العظيم (جامعة القاهرة): فلقد اختار المثقفون العرب، في معظمهم، أسلوب ((العزف المنفرد))، في عزلة عن حركة الجماهير في المجتمع، وفي عزلة بعضهم عن بعض، وانتشرت بينهم أمراض ((الفردية)) و ((الشللية)).. وحفلت المنطقة العربية بنموذج ((المثقف الطاووس)) الذي يختال عُجباً بنفسه الذي لا يرى إلا نفسه في المرآة ولا يرجع سوى إلى أعماله.. [ويضيف قائلا:] إن تلك النرجسية المفرطة للمثقف العربي نتاج التخلف.
= علي حرب (من لبنان وله كتاب نقد المثقف) يقول في هذا الكتاب تحت عنوان (أوهام النخبة) : وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له ولا حملات الحركات الأصولية عليه – كما يتوهم بعض المثقفين- بالعكس ما يفسر وضعية الحصار هو: نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي، أي اعتقاده أنه يمثل عقل الأمة، أو ضمير المجتمع، أو حارس الوعي، إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف، وهذا هو ثمن النخبوية، عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية، أو معارج التقدم. ولا عجب فمن يغرق في أوهامه ينفي نفسه عن العالم، ومن يقع أسير أفكاره تحاصره الوقائع.
= د.تركي الحمد (من السعودية، وله كتاب فكر الوصاية ووصاية الفكر) يقول: إن المثقف يشتكي دائمًا من الانفصام بينه وبين الجماهير والسلطة، ثم يقرر أن يعتزل، ويرمي باللوم على كل من حوله، دون أن يلتفت إلى ذاته، ولذا كان من الضروري نقد المثقف ذاته وإزالة الستار الذي يتدثر به، فالمثقفون لا يدركون ما يجري في الشارع العربي بسبب تعاملهم مع مجرداتٍ تافهة لا صلة لها بالواقع، يثيرون قضايا لا يعاني منها أحد!، ولا تشكل أزمة في الشارع، هيمنة هذا النمط من النخبوية ووهم الوصاية ووهم المُثل المطلقة أدى إلى شلِّ فاعلية المثقف في الحياة العامة.
= طاهر لبيب كتب كلاماً كثيراً منه: ”إن المثقف العربي معزول عن الفئات الشعبية باهتمامات ومشاغل جانبية ، لأنه لا يشارك في نشاطات المجتمع إلا عبر لقاءات بين زملائه، بل كثيراً ما تنقطع صلته بقرابته وذويه ، إن حياة الناس أصبحت عنده موضوع عمل وتحليل ولم تتواصل نسيجاً علائقيا يتحرك فيه”. ويعلق على موضوع الندوة التي قدم فيها هذا البحث(عنوان الندوة: المثقفون والسلطة في العالم العربي) بقوله: ”إن المعادلة التي يُجهد المثقف نفسه في حَلِّها بينه وبين السلطة قد تكون تجسيداً للفجوة بينهما ولكنها في الوقت نفسه اعتراف بانقطاع الجسور مع الشعب، كثيراً ما يقارَن المثقف الجليل بالعالِم الفقيه في علاقتهما بالسلطة ، ولو تم النظر إلى علاقتهما بعامة الناس لاتضح من هذه الوجهة أن المثقف فقيه فاشل!”.
= حيدر إبراهيم علي (سوداني الأصل وله كتب) في بحثٍ له عن المثقفين في السودان يقول: إن ثقافتهم وتعليمهم قد أوجد انفصاماً بين فكرهم وبين واقع مجتمعهم. ولأن ذلك التعليم قد شدهم إلى رؤى ثقافية مناقضة لثقافة مجتمعهم ، فقد تصرفوا بتعالٍ شديد على مجتمعهم وشعبهم. إذ اقتلعهم هذا التعليم عن بيئتهم ولم يستطع أن يزرعهم في وضع متقدم!.
العصرانيون والإبداع:
اﻹبداع جزء أساسي في الثقافة، فالثقافة ليست مجرد جمع للمعلومات.. والعصرانيون عندما نقدوا المثقف الإسلامي قالوا: إنه يجتر تراثه، وهم اجتروا تراثاً غير تراثهم..
= إليا حريق يقول: إننا معشر المفكرين العرب لانزال في دوامة التقليد والنقل إلى درجةٍ تفوق مانتصوره.. لقد أخذنا الاشتراكية كوصفة من الكتب ونحاول الآن الأمر ذاته مع الديمقراطية!.
= د. علي الكنـز (عالم اجتماع جزائري يساري ماركسي) يقول: وتميز المثقفون بعجزهم عن تحويل إنتاجهم الثقافي إلى ثقافة! إذ نلمس في كتاباتهم فقدان الوعي بالانتماء إلى الجماعة المحلية. وبحكم موقف المثقفين كفئة مثقفة وبحكم أسلوبها وتصرفاتها ورفضها الرجوع إلى الثقافة المحلية فإنها بالتالي منتجة لأفكارٍ لايمكن أن يقال عنها إلا أنها عقيمة وجامدة.
= محمد الجوهري (أحد رواد علم الاجتماع العرب) يقول في كتاب ”رجالات الاجتماع”: إن تلك الكتابات علاوة على طابعها النظري فهي غير دقيقة في طريقة العرض بل إن بعضها ينم عن اضطراب وخلط شديدين وهي تقدم للقارئ معالجة سطحية للموضوع .
= عبد الباسط عبد المعطي (رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع) يقول: إن معظمنا يعيد انتاج الفكر الغربي استسهالا للاستهلاك!!.
اعترافهم بالنفاق والانتهازية:
= عاطف عضيبات يقول: نلاحظ أن كثيراً من المثقفين العرب أصبح انتهازياً يتلخص همه في البحث عن أماكن المسؤوليات للاستفادة من الامتيازات، وتجارب صعود المثقفين إلى السلطة تثبت أنهم يتنكرون للمبادئ التي دافعوا عنها.
= حيدر إبراهيم يقول: إن الانتلجنسي (النخبة المثقفة) بحثت عن كل الوسائل التي تجعلها في قمة السلطة!، ففي حالة الحياة البرلمانية لجأت إلى القوى التقليدية القبلية والدينية، وفي حالة الدكتاتورية قدّست الحكام!!..
= عبد الوهاب أبوحديبة يقول (وهو يتحدث عن علماء الاجتماع) : حتى الآن ليس لنا في البلاد العربية مصداقية، ولأنه ليس لنا مصداقية فليس لنا فاعلية..
اعترافهم بالشعور بالفشل والإفلاس:
نتيجة هذه المعطيات: حالةٌ تلبَّست كثيراً من هؤلاء المثقفين.. الفشل والإفلاس ونوعٌ من الاغتراب .. وهو في النهاية فشل لأن مكان المثقف الريادة لا الاغتراب والنظرة السوداوية.
= يقول منصف ونَّاس: إن من صفة المثقف العربي عزلته وازدواجية تكوينه بالإضافة إلى بؤسه الاجتماعي وجهله بالمحيط الواقعي والتاريخي.
= عاطف عضيبات يتحدث في مقال عن حالة الاغتراب فيقول: إنه الاغتراب الذي يشعر فيه الإنسان بأن منتجاته تسيطر عليه بدل أن يسيطر عليها فهو لذلك لايتمكن من تحديد مصيره أو التأثير في مجرى الأحداث الكبرى أو المشاركة بها فيعجز عن تحقيق ذاته.. وهكذا فالمثقف المغترب الذي يشعر بعجزه وعدم انتمائه هو مثقف مشلول الإرادة وسيظل بعيداً عن إمكانية التغيير .
= صلاح الدين الجورشي يقول: المثقف العربي غير قادر على التأثير في الواقع لأن كلمته غير مسموعة بل إن كلمته غير مفهومة لأن علاقته بالعصر قد اختلت وعلاقته بالجمهور قد اختلت هي أيضاً.
= في عام 1985م/1405هـ عُقدت ندوة احتشد لها لفيفٌ من المثقفين شاركَ فيها مئاتٌ من علماء الاجتماع العرب وغيرهم واعترفوا فيها بفشلهم الذريع بالارتقاء بمجتمعهم وأقروا أن المجتمع غني عنهم!.. وكانت الندوة إجابة على هذا التساؤل: ”هل يستطيع الوطن العربي أن يزدهر بدون علم الاجتماع؟” وقد جاءت البحوث لتؤكد هامشية ومصلحية المثقف العربي.
= سعد الدين إبراهيم قال: إجابتي على السؤال بكل الصدق المؤلم بأنه نعم! يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتقدم بلا علماء الاجتماع العرب!
لهذا المجرى كله لاغرابة أن تكون ثمار قيادتهم للأمة سيئة.. حتى جاءت الخلاصات التي تؤكد هذا:
= يقول فادي إسماعيل: لقد أخفقت العلمانية كما أخفقت العقلانية وهذا جزء من إخفاق الحداثة ككل في تجربة التقدم العربي وما التفكك السياسي والتحزب الثقافي والحروب الإقليمية والغثائية والطوائفية والتبعية الاقتصادية والصعود السياسي والثقافي للتيار الديني إلا عناوين دالة على هذا الإخفاق الكلي.
هذه هي الثقافة العصرانية كمجرى عام .. لاشك أن فيها مثقفين يمتلكون قدرات فكرية عالية ولديهم جدية في التعامل مع القضايا .. ولاريب أن هناك نتاجاً ثقافياً عصرانياً ، لكن الحكم للمجرى العام..
ماذا بعد الفشل؟
وبعد هذه التجربة يأتي السؤال:
ما هو الحل وما هو المسار؟
ما الذي أنتجه هذا الوضع الذي وصلت إليه العصرانية؟
ما هو المتصور أن يفعل العصرانيون بعد هذا الفشل، وما هي الصفحة التي سيقلبونها؟
ما الذي حدث لزمرة المثقفين العرب؟
تفرقوا طرائق قددا:
= فئةٌ منهم رجعوا إلى الدين وانتقلوا إلى الضفة الأخرى (التيار الإسلامي) ومثال هؤلاء خالد محمد خالد ومنصور فهمي ومحمد جلال كشك ومحمد حسين هيكل .. وعادل حسين وطارق البشري ومنير شفيق..
= وفئة ثانية : أناس حاولوا أن يعتزلوا الجانب الثقافي ويدخلوا في أمور أخرى إما سياسية أو اقتصادية ..
= هناك فئة – رغم هذه النتيجة – إلا أنها قررت أن تواصل الطريق لأنها ليس بإمكانها أن تعدّل مسارها وليس بإمكانها أن تتخلى عن مسؤوليتها لأن هذا يعني أن تنتقل المجتمعات إلى التيار الإسلامي فالحل أن يقف نفسه لمواجهة مشروعات الصحوة! .
د. فؤاد زكريا كتب بحثاً عنوانه (العلمانية ضرورة!!) قال فيه:”إننا (أي العصرانيين)في هذه المرحلة نعرف ما لا نريد (أي الدين) ولكننا لا نعرف ما نريد!!” .. أي ليس لديهم مشروع أو قيم يقيمون عليها مشروعاً ..وهؤلاء يحاربون الصحوة في موقف صريح ومثالهم: عبد الله العروي وصادق العظم..
= ومنهم أناس هاجروا! لأنهم يريدون أن يبقوا على وهجهم الذي انطفأ في العالم العربي..
وثمة نوع من الهجرة.. إلى أسلوب الرواية التي يستطيع أن يبث فيها أفكاره..
= الفئة الأوسع والأكبر هي الفئة التي غيَّرت في أسلوبها الثقافي وإن لم تتغيّر التركيبة الأصلية ..لاالمرجعية ولا الحضارة التي تنتمي إليها.. فهم يقولون: إن الموضة الآن هي الاعتماد على التراث!.. إذن فالطريق لبناء ثقافة عصرانية تكون عن طريق التراث.. لكنهم يتعاملون مع التراث بمنهجية مختلفة:
o فمنهم من سلك طريق الانتقاء لبعض الفترات أو لبعض المعطيات التراثية..
o ومنهم من سلك طريق الدراسة النقدية للتراث وهذه منهجية للمفكر المغربي (محمد عابد الجابري) وله مشروع لدراسة التراث أخرجه في كتب (نحن والتراث، الحداثة والتراث، نقد العقل العربي..) يقول : (ينبغي أن ندرس تراثنا دراسة نقدية فرزية).. والنقد للتراث هنا هو بالمنهجية العصرانية وعلى أساس رؤية عصرانية ..
o ومن هؤلاء د. زكي نجيب محمود (فيلسوف عربي تخصص في الوضعية المنطقية ، وأصدر كتاب خرافة الميتافيزيقيا : أي خرافة علم الغيب ) كتب في وقتٍ ماض ”قلمٌ يتوب” حضر الملتقى الإسلامي في الجزائر وتأثر به فبدأ يتغير لكنه تغير مفكِّر! فألف كتاب (تجديد الفكر العربي) الذي صاغ فيه رؤيته الجديدة يقول: (ينبغي أن نرجع إلى تراثنا ).. ويقترح منظوراً لهذا التفاعل مع التراث فيقول : (من قواعد تراثنا أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل ) وذكر كتابا لأبي حامد الغزالي ثم قال: (هذه قاعدة ينبغي أن نرتكز عليها لكن من خلال منهجية جديدة غير المنهجية التي أخذ بها علماء التراث … نريد بالسعادة تماهياً مع عصرنا سعادة الإنسان على هذه الأرض مأكلا ومشربا وبالعلم الفيزياء والكيمياء والعمل ما يجريه العلماء في معاملهم!!..).. وقد أعلن قبل موته بشهرين في محاضرة له بالدوحة أن كل الفلسفة هراء!! ..
======
(*)هذه الصفحات تلخيصٌ مقارب لأمالي البرفسور الشيخ عبدالرحمن الزنيدي حفظه الله حول الثقافة: مفهومها، وأسسها، وواقعها بين المثقفين العصرانيين والإسلاميين. وقد ساهم معي في إخراج هذا العمل مجموعة من الزملاء وهم: عبدالرحمن آل خلف، ودعفس الدعفس، وإبراهيم الفوزان.. شكر الله لهم جهودهم وعطاءهم. أسأل الله تعالى أن ينفع الجميع بهذه الأمالي: ممليها ومن ساهم في جمعها وكاتبها وقارئها.
لقد تحققت لهؤلاء المثقفين الفرصة وأصبحوا في موقع القيادة في كثير من المجتمعات العربية سواء السياسية أو الفكرية، وكانت النتيجة بعد عقود من هذه الهيمنة التي تحققت لهم: سقوط حضاري، وتبعة للآخر، واندحار عسكري، وحالة تسول.. هذه النتيجة تؤكد الفشل الذريع والإخفاق المروع لدور هؤلاء المثقفين.
هذا نوع من الاتهام الذي نصمهم به - وهو دعوى لابد أن تُعضَد بما يدعمها - ويكفينا برهاناً على هذه الدعاوى :
1) الواقع: والواقع شاهد.
2) اعترافات هؤلاء على أنفسهم.
اعترافات العصرانيين:
فيما يلي سنسوق مجموعة من اعترافات العصرانيين كبرهان على فشلهم الذريع:
انفصال هؤلاء المثقفين عن المجتمع:
= يقول محمد عبد العظيم (جامعة القاهرة): فلقد اختار المثقفون العرب، في معظمهم، أسلوب ((العزف المنفرد))، في عزلة عن حركة الجماهير في المجتمع، وفي عزلة بعضهم عن بعض، وانتشرت بينهم أمراض ((الفردية)) و ((الشللية)).. وحفلت المنطقة العربية بنموذج ((المثقف الطاووس)) الذي يختال عُجباً بنفسه الذي لا يرى إلا نفسه في المرآة ولا يرجع سوى إلى أعماله.. [ويضيف قائلا:] إن تلك النرجسية المفرطة للمثقف العربي نتاج التخلف.
= علي حرب (من لبنان وله كتاب نقد المثقف) يقول في هذا الكتاب تحت عنوان (أوهام النخبة) : وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له ولا حملات الحركات الأصولية عليه – كما يتوهم بعض المثقفين- بالعكس ما يفسر وضعية الحصار هو: نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي، أي اعتقاده أنه يمثل عقل الأمة، أو ضمير المجتمع، أو حارس الوعي، إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف، وهذا هو ثمن النخبوية، عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية، أو معارج التقدم. ولا عجب فمن يغرق في أوهامه ينفي نفسه عن العالم، ومن يقع أسير أفكاره تحاصره الوقائع.
= د.تركي الحمد (من السعودية، وله كتاب فكر الوصاية ووصاية الفكر) يقول: إن المثقف يشتكي دائمًا من الانفصام بينه وبين الجماهير والسلطة، ثم يقرر أن يعتزل، ويرمي باللوم على كل من حوله، دون أن يلتفت إلى ذاته، ولذا كان من الضروري نقد المثقف ذاته وإزالة الستار الذي يتدثر به، فالمثقفون لا يدركون ما يجري في الشارع العربي بسبب تعاملهم مع مجرداتٍ تافهة لا صلة لها بالواقع، يثيرون قضايا لا يعاني منها أحد!، ولا تشكل أزمة في الشارع، هيمنة هذا النمط من النخبوية ووهم الوصاية ووهم المُثل المطلقة أدى إلى شلِّ فاعلية المثقف في الحياة العامة.
= طاهر لبيب كتب كلاماً كثيراً منه: ”إن المثقف العربي معزول عن الفئات الشعبية باهتمامات ومشاغل جانبية ، لأنه لا يشارك في نشاطات المجتمع إلا عبر لقاءات بين زملائه، بل كثيراً ما تنقطع صلته بقرابته وذويه ، إن حياة الناس أصبحت عنده موضوع عمل وتحليل ولم تتواصل نسيجاً علائقيا يتحرك فيه”. ويعلق على موضوع الندوة التي قدم فيها هذا البحث(عنوان الندوة: المثقفون والسلطة في العالم العربي) بقوله: ”إن المعادلة التي يُجهد المثقف نفسه في حَلِّها بينه وبين السلطة قد تكون تجسيداً للفجوة بينهما ولكنها في الوقت نفسه اعتراف بانقطاع الجسور مع الشعب، كثيراً ما يقارَن المثقف الجليل بالعالِم الفقيه في علاقتهما بالسلطة ، ولو تم النظر إلى علاقتهما بعامة الناس لاتضح من هذه الوجهة أن المثقف فقيه فاشل!”.
= حيدر إبراهيم علي (سوداني الأصل وله كتب) في بحثٍ له عن المثقفين في السودان يقول: إن ثقافتهم وتعليمهم قد أوجد انفصاماً بين فكرهم وبين واقع مجتمعهم. ولأن ذلك التعليم قد شدهم إلى رؤى ثقافية مناقضة لثقافة مجتمعهم ، فقد تصرفوا بتعالٍ شديد على مجتمعهم وشعبهم. إذ اقتلعهم هذا التعليم عن بيئتهم ولم يستطع أن يزرعهم في وضع متقدم!.
العصرانيون والإبداع:
اﻹبداع جزء أساسي في الثقافة، فالثقافة ليست مجرد جمع للمعلومات.. والعصرانيون عندما نقدوا المثقف الإسلامي قالوا: إنه يجتر تراثه، وهم اجتروا تراثاً غير تراثهم..
= إليا حريق يقول: إننا معشر المفكرين العرب لانزال في دوامة التقليد والنقل إلى درجةٍ تفوق مانتصوره.. لقد أخذنا الاشتراكية كوصفة من الكتب ونحاول الآن الأمر ذاته مع الديمقراطية!.
= د. علي الكنـز (عالم اجتماع جزائري يساري ماركسي) يقول: وتميز المثقفون بعجزهم عن تحويل إنتاجهم الثقافي إلى ثقافة! إذ نلمس في كتاباتهم فقدان الوعي بالانتماء إلى الجماعة المحلية. وبحكم موقف المثقفين كفئة مثقفة وبحكم أسلوبها وتصرفاتها ورفضها الرجوع إلى الثقافة المحلية فإنها بالتالي منتجة لأفكارٍ لايمكن أن يقال عنها إلا أنها عقيمة وجامدة.
= محمد الجوهري (أحد رواد علم الاجتماع العرب) يقول في كتاب ”رجالات الاجتماع”: إن تلك الكتابات علاوة على طابعها النظري فهي غير دقيقة في طريقة العرض بل إن بعضها ينم عن اضطراب وخلط شديدين وهي تقدم للقارئ معالجة سطحية للموضوع .
= عبد الباسط عبد المعطي (رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع) يقول: إن معظمنا يعيد انتاج الفكر الغربي استسهالا للاستهلاك!!.
اعترافهم بالنفاق والانتهازية:
= عاطف عضيبات يقول: نلاحظ أن كثيراً من المثقفين العرب أصبح انتهازياً يتلخص همه في البحث عن أماكن المسؤوليات للاستفادة من الامتيازات، وتجارب صعود المثقفين إلى السلطة تثبت أنهم يتنكرون للمبادئ التي دافعوا عنها.
= حيدر إبراهيم يقول: إن الانتلجنسي (النخبة المثقفة) بحثت عن كل الوسائل التي تجعلها في قمة السلطة!، ففي حالة الحياة البرلمانية لجأت إلى القوى التقليدية القبلية والدينية، وفي حالة الدكتاتورية قدّست الحكام!!..
= عبد الوهاب أبوحديبة يقول (وهو يتحدث عن علماء الاجتماع) : حتى الآن ليس لنا في البلاد العربية مصداقية، ولأنه ليس لنا مصداقية فليس لنا فاعلية..
اعترافهم بالشعور بالفشل والإفلاس:
نتيجة هذه المعطيات: حالةٌ تلبَّست كثيراً من هؤلاء المثقفين.. الفشل والإفلاس ونوعٌ من الاغتراب .. وهو في النهاية فشل لأن مكان المثقف الريادة لا الاغتراب والنظرة السوداوية.
= يقول منصف ونَّاس: إن من صفة المثقف العربي عزلته وازدواجية تكوينه بالإضافة إلى بؤسه الاجتماعي وجهله بالمحيط الواقعي والتاريخي.
= عاطف عضيبات يتحدث في مقال عن حالة الاغتراب فيقول: إنه الاغتراب الذي يشعر فيه الإنسان بأن منتجاته تسيطر عليه بدل أن يسيطر عليها فهو لذلك لايتمكن من تحديد مصيره أو التأثير في مجرى الأحداث الكبرى أو المشاركة بها فيعجز عن تحقيق ذاته.. وهكذا فالمثقف المغترب الذي يشعر بعجزه وعدم انتمائه هو مثقف مشلول الإرادة وسيظل بعيداً عن إمكانية التغيير .
= صلاح الدين الجورشي يقول: المثقف العربي غير قادر على التأثير في الواقع لأن كلمته غير مسموعة بل إن كلمته غير مفهومة لأن علاقته بالعصر قد اختلت وعلاقته بالجمهور قد اختلت هي أيضاً.
= في عام 1985م/1405هـ عُقدت ندوة احتشد لها لفيفٌ من المثقفين شاركَ فيها مئاتٌ من علماء الاجتماع العرب وغيرهم واعترفوا فيها بفشلهم الذريع بالارتقاء بمجتمعهم وأقروا أن المجتمع غني عنهم!.. وكانت الندوة إجابة على هذا التساؤل: ”هل يستطيع الوطن العربي أن يزدهر بدون علم الاجتماع؟” وقد جاءت البحوث لتؤكد هامشية ومصلحية المثقف العربي.
= سعد الدين إبراهيم قال: إجابتي على السؤال بكل الصدق المؤلم بأنه نعم! يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتقدم بلا علماء الاجتماع العرب!
لهذا المجرى كله لاغرابة أن تكون ثمار قيادتهم للأمة سيئة.. حتى جاءت الخلاصات التي تؤكد هذا:
= يقول فادي إسماعيل: لقد أخفقت العلمانية كما أخفقت العقلانية وهذا جزء من إخفاق الحداثة ككل في تجربة التقدم العربي وما التفكك السياسي والتحزب الثقافي والحروب الإقليمية والغثائية والطوائفية والتبعية الاقتصادية والصعود السياسي والثقافي للتيار الديني إلا عناوين دالة على هذا الإخفاق الكلي.
هذه هي الثقافة العصرانية كمجرى عام .. لاشك أن فيها مثقفين يمتلكون قدرات فكرية عالية ولديهم جدية في التعامل مع القضايا .. ولاريب أن هناك نتاجاً ثقافياً عصرانياً ، لكن الحكم للمجرى العام..
ماذا بعد الفشل؟
وبعد هذه التجربة يأتي السؤال:
ما هو الحل وما هو المسار؟
ما الذي أنتجه هذا الوضع الذي وصلت إليه العصرانية؟
ما هو المتصور أن يفعل العصرانيون بعد هذا الفشل، وما هي الصفحة التي سيقلبونها؟
ما الذي حدث لزمرة المثقفين العرب؟
تفرقوا طرائق قددا:
= فئةٌ منهم رجعوا إلى الدين وانتقلوا إلى الضفة الأخرى (التيار الإسلامي) ومثال هؤلاء خالد محمد خالد ومنصور فهمي ومحمد جلال كشك ومحمد حسين هيكل .. وعادل حسين وطارق البشري ومنير شفيق..
= وفئة ثانية : أناس حاولوا أن يعتزلوا الجانب الثقافي ويدخلوا في أمور أخرى إما سياسية أو اقتصادية ..
= هناك فئة – رغم هذه النتيجة – إلا أنها قررت أن تواصل الطريق لأنها ليس بإمكانها أن تعدّل مسارها وليس بإمكانها أن تتخلى عن مسؤوليتها لأن هذا يعني أن تنتقل المجتمعات إلى التيار الإسلامي فالحل أن يقف نفسه لمواجهة مشروعات الصحوة! .
د. فؤاد زكريا كتب بحثاً عنوانه (العلمانية ضرورة!!) قال فيه:”إننا (أي العصرانيين)في هذه المرحلة نعرف ما لا نريد (أي الدين) ولكننا لا نعرف ما نريد!!” .. أي ليس لديهم مشروع أو قيم يقيمون عليها مشروعاً ..وهؤلاء يحاربون الصحوة في موقف صريح ومثالهم: عبد الله العروي وصادق العظم..
= ومنهم أناس هاجروا! لأنهم يريدون أن يبقوا على وهجهم الذي انطفأ في العالم العربي..
وثمة نوع من الهجرة.. إلى أسلوب الرواية التي يستطيع أن يبث فيها أفكاره..
= الفئة الأوسع والأكبر هي الفئة التي غيَّرت في أسلوبها الثقافي وإن لم تتغيّر التركيبة الأصلية ..لاالمرجعية ولا الحضارة التي تنتمي إليها.. فهم يقولون: إن الموضة الآن هي الاعتماد على التراث!.. إذن فالطريق لبناء ثقافة عصرانية تكون عن طريق التراث.. لكنهم يتعاملون مع التراث بمنهجية مختلفة:
o فمنهم من سلك طريق الانتقاء لبعض الفترات أو لبعض المعطيات التراثية..
o ومنهم من سلك طريق الدراسة النقدية للتراث وهذه منهجية للمفكر المغربي (محمد عابد الجابري) وله مشروع لدراسة التراث أخرجه في كتب (نحن والتراث، الحداثة والتراث، نقد العقل العربي..) يقول : (ينبغي أن ندرس تراثنا دراسة نقدية فرزية).. والنقد للتراث هنا هو بالمنهجية العصرانية وعلى أساس رؤية عصرانية ..
o ومن هؤلاء د. زكي نجيب محمود (فيلسوف عربي تخصص في الوضعية المنطقية ، وأصدر كتاب خرافة الميتافيزيقيا : أي خرافة علم الغيب ) كتب في وقتٍ ماض ”قلمٌ يتوب” حضر الملتقى الإسلامي في الجزائر وتأثر به فبدأ يتغير لكنه تغير مفكِّر! فألف كتاب (تجديد الفكر العربي) الذي صاغ فيه رؤيته الجديدة يقول: (ينبغي أن نرجع إلى تراثنا ).. ويقترح منظوراً لهذا التفاعل مع التراث فيقول : (من قواعد تراثنا أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل ) وذكر كتابا لأبي حامد الغزالي ثم قال: (هذه قاعدة ينبغي أن نرتكز عليها لكن من خلال منهجية جديدة غير المنهجية التي أخذ بها علماء التراث … نريد بالسعادة تماهياً مع عصرنا سعادة الإنسان على هذه الأرض مأكلا ومشربا وبالعلم الفيزياء والكيمياء والعمل ما يجريه العلماء في معاملهم!!..).. وقد أعلن قبل موته بشهرين في محاضرة له بالدوحة أن كل الفلسفة هراء!! ..
======
(*)هذه الصفحات تلخيصٌ مقارب لأمالي البرفسور الشيخ عبدالرحمن الزنيدي حفظه الله حول الثقافة: مفهومها، وأسسها، وواقعها بين المثقفين العصرانيين والإسلاميين. وقد ساهم معي في إخراج هذا العمل مجموعة من الزملاء وهم: عبدالرحمن آل خلف، ودعفس الدعفس، وإبراهيم الفوزان.. شكر الله لهم جهودهم وعطاءهم. أسأل الله تعالى أن ينفع الجميع بهذه الأمالي: ممليها ومن ساهم في جمعها وكاتبها وقارئها.
ليست هناك تعليقات:
أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال